فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {وإذا أذقنا الناس رحمة} يعني رخاء ونعمة {من بعد ضراء مستهم} يعني من بعد شدة وبلاء وضيق في العيش أصابهم والمراد بالناس هنا: كفار مكة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حبس عنهم المطر سبع سنين حتى هلكوا من الجوع والقحط، ثم إن الله سبحانه وتعالى رحمهم، فأنزل عليهم المطر الكثير حتى أخصبت البلاد وعاش الناس بعد ذلك الضر فلم يتعظوا بذلك بل رجعوا إلى الفساد والكفر والمكر وهو قوله سبحانه وتعالى: {إذا لهم مكر في آياتنا} قال مجاهد: أي تكذيب واستهزاء وقال مقاتل وابن حيان: لا يقولون هذا رزق الله إنما يقولون سقينا بنوء كذا وكذا.
ويدل على صحة هذا القول ما روي عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف، أقبل على الناس فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم»؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بين مؤمن بالكواكب» أخرجاه في الصحيحين.
قوله: على أثر سماء كانت من الليل أي مطر كان قد وقع في الليل وسمي المطر سماء لأنه يقطر من السماء.
والأنواء عند العرب: هي منازل القمر إذا طلع نجم سقط نظيره وكانوا يعتقدون في الجاهلية أنه لابد عند ذلك من وجود مطر أو ريح كما يزعم المنجمون أيضًا فمن العرب من يجعل ذلك التأثير للطالع لأنه ناء أي ظهر وطلع ومنهم من ينسبه للغارب فنفى النبي عليه السلام صحة ذلك ونهى عنه وكفَّر معتقده إذا اعتقد أن النجم فاعل ذلك التأثير وأما من يجعله دليلًا، فهو جاهل بمعنى الدلالة.
وأما من أسند ذلك إلى العادة التي يجوز انخرامها فقد كرهه قوم وحرمه قوم ومنهم من تأول الكفر بكفر نعمة الله والله أعلم وسمى تكذيبهم بآيات الله مكرًا لأن المكر عبارة عن صرف الشيء عن وجهه الظاهر بنوع من الحيلة وكان كفار مكة يحتالون في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من المفاسد: {قل الله أسرع مكرًا} أي: قل لهم يا محمد الله أعجل عقوبة وأشد أخذًا وأقدر على الجزاء وإن عذابه في هلاكهم أسرع إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق ولما قابلوا نعمة الله بالمكر، قابل مكروهم بمكر أشد منه وهو أمهلهم إلى يوم القيامة {إن رسلنا يكتبون ما تمكرون} يعني الحفظة الكرام الكاتبين يكتبون ويحفظون عليهم الأعمال القبيحة السيئة إلى يوم القيامة حتى يفتضحوا بها ويجزون على مكرهم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا}
لما ذكر تعالى قوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون} الآية ثم ذكر قوله: {وقالوا لولا أنزل عليه آية} وذلك على سبيل التعنت أخبر أنّ هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عندما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال، وأنّ إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته، وكان خليقًا بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته.
وإعراضهم عن الآيات نظير قوله: {فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه}.
وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين، فأتاه أبو سفيان فقال: إدع لنا بالخصب، فإنّ أخصبنا صدقنا، فسأل الله لهم فسقوا ولم يؤمنوا، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدّي شكر الله عند زوال المكروه عنه، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير.
تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته.
والرحمة هنا الغيث بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، وما أشبه ذلك.
ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، ومعنى مكر في آياتنا التكذيب بالقرآن، والشك فيه قاله الجماعة.
وقال مجاهد ومقاتل: الاستهزاء والتكذيب.
وقال أبو عبيدة: الرد والجحود.
وحكى الماوردي النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وهو شبيه بما قال الزمخشري: إنّ المكر أخفى الكيد.
وقال ابن عطية: والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار، واطراح الشكر والخوف من العصاة انتهى.
والإذاقة والمس هنا مجازان، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن آدم من حالة الخير إلى حالة الشر، وذلك بلفظ أذقنا، كأنه قيل: أول ذوقه الرحمة قبل أن يدوام استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي: ينشيء المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك.
وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جوابًا لإذا الشرطية، أي في وقت إذاقة الرحمة فاجأوا بالمكر.
ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل: قل الله أسرع مكرًا فجاءت أفعل التفضيل.
ومعنى وصف المكر بالأسرعية: أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم، وهو موقعه بكم، واستدرجكم بإمهاله.
قال ابن عطية: أسرع من سرع، ولا يكون من أسرع يسرع، حكى ذلك أبو علي.
ولو كان من أسرع لكان شاذًا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في نار جهنم لهي أسود من القار» وما حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم فليس بشاذ انتهى.
وقيل: أسرع هنا ليست للتفضيل، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب.
وفي بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب: المنع مطلقًا وما ورد من ذلك فهو شاذ، والجواز مطلقًا، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع، أو لغير النقل فيجوز، نحو: أشكل الأمر وأظلم الليل، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد، لأن أسود ليس فعله على وزن أفعل، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو: سود وحمر وأدم إلاّ لكونه لونًا، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقًا، وبعضهم في السواد والبياض فقط.
والرسل هنا الحفظة بلا خلاف.
والمعنى: أن ما تظنونه خافيًا مطويًا عن الله لا يخفى عليه، وهو منتقم منكم.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمر: رسلنا بالتخفيف.
وقرأ الحسن وقتادة ومجاهد والأعرج ورويت عن نافع: يمكرون على الغيبة جريًا على ما سبق.
وقرأ أبو رجاء وشيبة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق وعيسى وطلحة والأعمش والجحدري وأيوب بن المتوكل وابن محيصن وشبل وأهل مكة والسبعة: بالتاء على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم، والتفاتًا لقوله: {قل الله} أي: قل لهم، فناسب الخطاب.
وفي قوله: {إنّ رسلنا} التفات أيضًا، إذ لم يأت أنّ رسله.
وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي: يا أيها الناس إنّ الله أسرع مكرًا، وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون، وينبغي أن يحمل هذا على التفسير، لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف، والمحفوظ عن أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} صِحةً وسَعةً {مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ} أي خالطتْهم حتى أحسوا بسوء أثرِها فيهم، وإسنادُ المساسِ إلى الضراء بعد إسنادِ الإذاقةِ إلى ضمير الجلالِة من الآداب القرآنيةِ كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} ونظائرِه. وقيل: سلط الله تعالى على أهل مكةَ القحطَ سبع سنينَ حتى كادوا يهلِكون ثم رحمهم بالحَيا فطفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعادون رسولَه عليه الصلاة والسلام ويكيدونه وذلك قوله تعالى: {وَإِذَا لَهُم مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} أي بالطعن فيها وعدمِ الاعتداد بها والاحتيالِ في دفعها، وإذا الأولى شرطيةٌ والثانيةُ جوابُها كأنه قيل: فاجأوا وقوع المكرِ منهم وتنكيرُ مكرٌ للتفخيم، وفي متعلقةٌ بالاستقرار الذي يتعلق به اللام {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا} أي أعجلُ عقوبةً أي عذابُه أسرعُ وصولًا إليكم مما يأتي منكم في دفع الحقِّ، وتسميةُ العقوبةِ بالمكر لوقوعها في مقابلة مكرِهم وجودًا أو ذكرًا {إِنَّ رُسُلَنَا} الذين يحفظون أعمالَكم والإضافةُ للتشريف {يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} أي مكرَكم أو ما تمكُرونه وهو تحقيقٌ للانتقام منهم وتنبيهٌ على أن ما دبروا في إخفائه غيرُ خافٍ على الحفَظة فضلًا عن العليم الخبير، وصيغةِ الاستقبال في الفعلين للدِلالة على الاستمرار التجدّدي والجملةُ تعليلٌ من جهته تعالى لأسرعية مكرِه سبحانه غيرُ داخل في الكلام الملقن كقوله تعالى: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} فإن كتابةَ الرسلِ لما يمكرون من مبادئ بطلانِ مكرِهم وتخلف أثرِه عنه بالكلية وفيه من المبالغة ما لا يوصف، وتلوينُ الخطاب بصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم للتشديد في التوبيخ، وقرئ على لفظ الغَيبة فيكون حينئذٍ تعليلًا لما ذُكر أو للأمر. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً} كالصحة والسعة {مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ} أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، وإسناد المساس إلى الضراء بعد إسناد الإذاقة إلى ضمير الجلالة من الآداب القرآنية كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] ونظائره وينبغي التأدب في ذلك ففي الخبر «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل لما روي أن الله تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالخصب ووعدوه بالإيمان فلما دعا لهم ورحمهم الله تعالى بالحياء طفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعاندونه عليه الصلاة والسلام ويكيدونه وذلك قوله سبحانه: {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آياتنا} أي بالطعن فيها وعدم الاعتداد بها والاحتيال في دفعها، والظاهر أن المراد بالآيات الآيات القرآنية، وقيل: المراد بها الآيات التكوينية كإنزال الحياء، ومكرهم فيها إضافتها إلى الأصنام والكواكب.
وقيل: إن {الناس} عام لجميع الكفار، ولا يجوز حمله على ما يشمل العصاة كما لا يخفى، وكانت العرب تضيف الأمطار وكذا الرياح والحر والبرد إلى الأنواء، وهو جميع نوء مصدر ناء ينوء إذا نهض بجهد ومشقة ويقال ذلك أيضًا إذا سقط فهو من الأضداد، ويطلق على النجم الذي هو أحد المنازل الثمانية والعشرين التي ذكرناها فيما سبق وهو المراد في كلامهم إلا أن الإضافة إليه باعتبار سقوطه مع الفجر وغروبه كما هو المشهور أو باعتبار طلوعه ذلك الوقت كما قال الأصمعي.
وقد عد القائل بتأثير الأنواء كافرًا فقد روى الشيخان وأبو داود والنسائي عن زيد بن خالد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب وكافر بي ومؤمن بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب». ولعل كون ذلك من الكفر بالله تعالى مبني على زعم أن للكواكب تأثيرًا اختياريًا ذاتيًا في ذلك وإلا فاعتقاد أن التأثير عندها لا بها كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة في سائر الأسباب ليس بكفر كما نص عليه العلامة ابن حجر، وكذا اعتقاد أن التأثير بها على معنى أن الله تعالى أودع فيها قوة مؤثرة بإذنه فمتى شاء سبحانه أثرت ومتى لم يشأ لم تؤثر كما هو مذهب السلف في الأسباب على ما قرره الشيخ إبراهيم الكورابي في مسلك السداد، ولو كان نسبة التأثير مطلقًا إلى الأنواء ونحوها من العلويات كفرًا لاتسع الخرق ولزم إكفار كثير من الناس حتى أفاضلهم لقولهم بنسبة الكثير من عالم الكون والفساد إلى العلويات ويسمونها بالآباء العلوية، وقد صرح الشيخ الأكبر قدس سره بأن للكواكب السيارات وغيرها تأثيرًا في هذا العالم إلا أن الوقوف على تعيين جزئياته مما لا يطلع عليه إلا أرباب الكشف والأرصاد القلبية، وليس مراده قدس سره وكذا مراد من أطلق التأثير إلا ما ذهب إليه أحد الفريقين في الأسباب وحاشا ثم حاشا أن يكون أولئك الأفاضل ممن يعتقد أن في الوجود مؤثرًا غير الله تعالى بل من وقف على حقيقة كلام الحكماء الذين هم بمعزل عن الشريعة الغراء وجدهم متفقين على أن الوجود معلول له تعالى على الإطلاق، قال بهمنيار في التحصيل: فإن سئلت الحق فلا يصح أن يكون علة الوجود إلا ما هو بريء من كل وجه من معنى ما بالقوة وهذا هو المبدأ الأول لا غير، وما نقل عن أفلاطون من قوله: إن العالم كرة والأرض مركز والإنسان هدف والأفلاك قسي والحوادث سهام والله تعالى هو الرامي فأين المفر يشعر بذلك أيضًا {نِعْمَ} أنهم قالوا بالشرائط العقلية وهي المراد بالوسائط في كلام بعضهم وهو خلاف المذهب الحق، وبالجملة لا يكفر من قال: إن الكواكب مؤثرة على معنى أن التأثير عندها أو بها بإذن الله تعالى بل حكمه حكم من قال: إن النار محرقة والماء مرو مثلًا، ولا فرق بين القولين إلا بما عسى أن يقال: إن التأثير في نحو النار والماء أمر محسوس مشاهد والتأثير في الكواكب ليس كذلك والقول به رجم بالغيب لكن ذلك بعد تسليمه لا يوجب كون أحد القولين كفرًا دون الآخر كما لا يخفى على المنصف، ومع هذا الأحوط عدم إطلاق نسبة التأثير إلى الكواكب والتجنب عن التلفظ بنحو ما أكفر الله سبحانه المتلفظ به هذا {وَإِذَا} الأولى شرطية والثانية فجائية رابطة للجواب، وتنكير {مَكَرَ} للتفخيم، و{فِى} متعلقة بالاستقرار الذي تتعلق به اللام.